341
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

آثَارِ الْأَوَّلِينَ مُزْدَجَرٌ ، وَفِي آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ تَبْصِرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ؟ أَوَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ، وَإِلَى الْخَلَفِ الْبَاقِينَ لاَ يَبْقَوْنَ ؟! أَوَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى : فَمَيِّتٌ يُبْكَى ، وَآخَرُ يُعَزَّى ، وَصَرِيعٌ مُبْتَلىً ، وَعَائِدٌ يَعُودُ ، وَآخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ ، وَطَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ ، وَغَافِلٌ وَلَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ؛ وَعَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي ؟!
أَلاَ فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ ، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ ، وَقَاطِعَ الْأُمْنِيَاتِ ، عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ لِلْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ؛ وَاسْتَعِينُوا اللّهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ ، وَمَا لاَ يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ .

الشّرْحُ :

لما كان الماضي معلوما جعل الحمد بإزائه ؛ لأنّ المجهول لا يحمَد عليه ، ولما كان المستقبل غيرَ معلوم جعل الاستعانة بإزائه ؛ لأنّ الماضيَ لا يُستعان عليه ، ولقد ظَرُف وأبدع عليه السلام في قوله : « ونسألُه المعافاة في الأديان ، كما نسأله المعافاة في الأبدان » ، وذلك أنّ للأديان سُقْما وطبّا وشفاء ، كما أنّ للأبدان سُقما وطبّا وشفاء .
قوله عليه السلام : « الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبُّوا تركها » معنىً حسن ، ومنه قول أبي الطّيّب :

كلّ دَمْعٍ يسيلُ منها عليْهَاوبفكّ اليدينِ عنها تُخَلّي
والرفض : التَّرْك ؛ وإبل رَفْض : متروكة ترعى حيث شاءت . وقوم سَفْر ، أي مسافرون . وأمُّوا : قصدوا . والعَلَم : الجبل أو المنار في الطريق يهتدى به . وكأنّ في هذه المواضع كهي في قوله : « كأنّك بالدنيا لم تكُنْ ، وكأنّك بالآخرة لم تزل ، ما أقرب ذلك وأسرعه ! » ، وتقدير الكلام هاهنا : كأنّهم في حال كونهم غير قاطعين له قاطعون له ، وكأنهم في حال كونهم غيرَ بالغين له بالغون له ؛ لأ نّه لما قرب زمان إحدى الحالتيْن من زمان الأُخرى شُبِّهوا وهم في الحال الأُولى بهم أنفسِهم وهم على الحال الثانية .
قوله عليه السلام : « وكم عسى المجرى » أجْرَى فلان فرسه إلى الغاية إذا أرسلها ، ثم نقل ذلك إلى كلّ مَنْ يقصِد بكلامه معنىً أو بفعله غرضا ، فقيل : فلان يجرِي بقوله إلى كذا ، أو يجرِي


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
340

يرِع بالكسر فيهما ورعاً وَرِعَةً ، ويروى : « سوء رَعْيهم » أي سوء سياستهم وإمرتهم . ونصرة أحدكم من أحدهم ، أي انتصاره منه وانتقامه ، فهو مصدر مضاف إلى الفاعل ، وقد تقدم شرح هذا المعنى . وقد حمل قوم هذا المصدر على الإضافة إلى المفعول ، وكذلك نُصْرة العبد . وتقدير الكلام حتى يكون نصرُة أحد هؤلاء الولاة لأحدكم كنصرة سيّد العبد السيء الطريقة إياه ، والضمير في قوله : « فيها » يرجع إلى غير مذكور لفظاً ، ولكنه كالمذكور ؛ يعني الفتنة ، أي حتى يكون أعظمكم في الفتنة غناء . ويروى برفع : « أعظمكم » ونصب « أحسنكم » والأول أليق ، وهذا الكلام كلّه إشارة إلى بني أُميّة .

98

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلامنَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ ، وَنَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنا عَلَى مَا يَكُونُ ، وَنَسْأ لُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الْأَدْيَانِ ، كَمَا نَسَأ لُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الأَبْدَانِ .
أُوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ لِهذِهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا ، وَالْمُبْلِيَةِ لِأَجْسَامِكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا ، فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهَا كَسَفْرٍ سَلَكُوا سَبِيلاً فَكَأ نـَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ ، وَأَمُّوا عَلَماً فَكَأ نـَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ . وَكَمْ عَسَى المُجْرِي إِلَى الْغَايَةِ أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا ! وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لاَ يَعْدُوهُ ، وَطَالِبٌ حَثِيثٌ مِنَ الْمَوْتِ يَحْدُوهُ وَمُزْعِجٌ فِي الدُّنْيَا عن الدُّنيا حَتَّى يُفَارِقَهَا رَغْماً ! فَـلاَ تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَفَخْرِهَا ، وَلاَ تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا ، وَلاَ تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وبُؤسِهَا ، فَإِنَّ عِزَّهَا وَفَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاع ، وَزِينَتَهَا وَنَعِيمَهَا إِلَى زَوَالٍ ، وَضَرَّاءَهَا وَبُؤسَهَا إِلَى نَفَادٍ ، وَكُلُّ مُدَّةٍ فِيهَا إِلَى انْتِهَاءٍ ، وَكُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ . أَوَلَيْسَ لَكُمْ فِي

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 91710
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي