353
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

يُفْتَقَدْ ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى ، وَأَعْلاَمُ السُّرَى ، لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ ، وَلاَ الْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ ، أُولَئِكَ يَفْتَحُ اللّهُ لَهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ ، وَيَكْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ .
أَيُّهَا النَّاسُ ، سَيَأْتي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُكْفَأُ فِيهِ الاْءِسْلاَمُ ،كَمَا يُكْفَأُ الاْءِنَاءُ بِمَا فِيهِ .
أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللّهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ ، وَلَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيكُمْ ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ : « إِنَّ في ذلِكَ لاَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ »۱ .

قال الرضي رحمه الله :
أمّا قوله عليه السلام : «كلّ مؤمِنٍ نُوَمَةٍ» فإنما أراد به الخامل الذكر القليل الشر ، والمساييح : جمع مِسياح ، وهو الذي يسيح بين الناس بالفساد والنمائم ، والمذاييع : جمع مِذْياع ، وهو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ، ونوّه بها ، والبُذُرُ : جمع بَذُور وهو الذي يكثر سفهه ويلغو منطقه .

الشّرْحُ :

شهد : حضر ، وكفأت الإناء ، أي قلبتُه وكببته . وقال ابن الأعرابيّ : يجوز أكفأته أيضاً ، والبُذُر : جمع بَذُور مثل صَبُور وصُبُر ؛ وهو الذي يذيع الأسرار ، وليس كما قال الرضي رحمه الله ، فقد يكون الإنسان بَذُوراً وإن لم يكثُر سفهه ولم يلغ منطقة ؛ بأن يكون عُلنَة مذياعاً من غير سفه ولا لغو . والضرّاء : الشدّة ، ومثلها البأساء ؛ وهما اسمان مؤنثان من غير تذكير . ومثل قوله عليه السلام : « كلّ مؤمن نُوَمة إنْ شهد لم يعرَف وإن غاب لم يفتقد » ، قولُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « رب أشعثَ أغبر ذي طِمْرين لا يُؤْبَه له ، لو أقسم على اللّه لأبرّ قسمه » .
ومعنى قوله عليه السلام : « وإن غاب لم يفتقد » ، أي لا يقال : ما صنع فلان ؟ ولا أين هو ؟ أي هو خامل لا يعرف . وقوله : « أولئك يفتح اللّه بهم أبواب الرحمة ، ويكشف بهم ضرّاء النقمة » ، وروي : « أولئك يفتح اللّه بهم أبواب رحمته ، ويكشف بهم ضرّاء نقمته » ، أي ببركاتهم يكون الخير ويندفع الشر .
ثم ذكر عليه السلام أنه سيأتي على الناس زمانٌ تنقلب فيه الأُمور الدينية إلى أضدادها ونقائضها ، وقد شهدنا ذلك عياناً .

1.سورة المؤمنون ۳۰ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
352

الأصْلُ :

۰.ومنها :الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ ، وَكَفَى بِالْمَرءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ؛ وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الرِّجَالِ إِلَى اللّهِ تَعَالَى لَعَبْداً وَكَلَهُ اللّهُ إِلَى نَفْسِهِ ، جَائِراً عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ ، سَائِراً بَغَيْرِ دَلِيلٍ؛ إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا عَمِلَ ، وَإِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الآخِرَةِ كَسِلَ ! كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ وَكَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ سَاقِطٌ عَنْهُ!

الشّرْحُ :

قوله عليه السلام : « العالم مَنْ عرف قدره » ، من الأمثال المشهورة عنه عليه السلام ، وقد قال الناس بعده في ذلك فأكثروا ، نحو قولهم : إذا جهلت قدر نفسك فأنت لقدر غيرك أجهل . ونحو قولهم : مَنْ لم يعرف قَدْرَ نفسِه ، فالناس أعذَرُ منه إذا لم يعرفوه . ثم عَبّر عن هذا المعنى بعبارة أُخرى ، فصارت مثلا أيضا ، وهي قوله : « كفى بالمرء جهلاً ألاّ يعرف قدره » .
ثم ذكر عليه السلام أنّ مِنْ أبغض البَشَر إلى اللّه عبدا وكَلَه اللّه إلى نفسه ، أي لم يمدّه بمعونته وألطافه ؛ لعلمه أ نّه لا ينجع ذلك فيه ، وأ نّه لا ينجذب إلى الخير والطاعة ، ولا يؤثر شيء ما في تحريك دواعيه إليها ، فيكِلُه اللّه حينئذٍ إلى نفسه . والجائر : العادِل عن السَّمت ، ولما كان هذا الشقيّ خابطاً فيما يعتقده ويذهب إليه ، مستندا إلى الجهل وفساد النَّظر ، جعله كالسائر بغير دليل . والحرث هاهنا : كلّ ما يفعل ليثمر فائدة ، فحرث الدنيا كالتجارة والزراعة ، وحرث الآخرة فعل الطاعات واجتناب المقبحات والمعاصي ، وسمّي حرثاً على جهة المجاز ، تشبيهاً بحرْث الأرض ، وهو من الألفاظ القرآنية . وكَسِل الرجل بكسر السين ، يكسَل أي يتثاقل عن الأُمور ، فهو كسلان ، وقوم كَسالى وكُسالى بالفتح والضم .
قال عليه السلام : حتّى كأن ما عمله من أُمور الدنيا هو الواجب عليه ، لحرصه وجدّه فيه ، وكأنّ ما وني عنه ، أي فتر فيه من أُمور الآخرة ساقط عنه وغير واجب عليه ؛ لإهماله وتقصيره فيه .

الأصْلُ :

۰.ومنها :وَذلِكَ زَمَانٌ لاَ يَنْجُو فِيهِ إِلاَّ كُلُّ مُؤمِنٍ نُوَمَةٍ ، إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ ، وَإِنْ غَابَ لَمْ

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 87757
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي