403
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

عذاب النار يكون أياماً وينقضي ، كما يذهب إليه المرجئة ، أو أنه لا عذاب بالنار للمسلم أصلاً ، كما هو قول الخلّص من المرجئة ، وأنّ أهل النار يألفون عذابها فلا يستضرّون به إذا تطاول الأمد عليهم ، وأمر العذاب أصعب مما يظنّون ، خصوصا على مذهبنا في الوعيد ؛ ولو لم يكن إلاّ آلام النفوس باستشعارها سخط اللّه تعالى عليها ، فإنّ ذلك أعظمُ من ملاقاة جرْم النار لبدن الحيّ . ثم أمرهم بأن يكتفوا من عِيان الآخرة وغيبها بالسماع والخبَر ، لأ نّه لا سبيل ـ ونحن في هذه الدار ـ إلى أكثر من ذلك .
وإلى قوله : « ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خيرٌ مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا » نظر أبو الطيب ۱ ، فقال ـ إلاّ أ نّه أخرجه في مخرج آخر ـ :

بلاد ما اشتهيتَ رأيتَ فيهافليس يفوتها إلاّ كِرَامُ
فهلاّ كان نقصُ الأهل فيهاوكان لأهلها منها الَّتمامُ
ثم قال : فكم من منقوص في دنياه وهو رابح في آخرته ، وكَمْ من مزيد في دنياه وهو خاسر في آخرته . ثم قال : إنّ الذي أُمِرتم به أوسع من الذي نُهيتم عنه ، وما أُحِلّ لكم أكثر مما حُرّم عليكم » ، الجملة الأولى هي الجملة الثانية بعينها ، وإنما أتى بالثانية تأكيداً للأُولى وإيضاحاً لها ، ولأنّ فنّ الخطابة والكتابة هكذا هو ، وينتظم كلتا الجملتيْن معنى واحد ، وهو أنّ فيما أحلّ اللّه غنىً عَمّا حَرّم ، بل الحلالُ أوسع ؛ ألا ترى أنّ المباح من المآكل والمشارب أكثرُ عدداً وأجناساً من المحرّمات ! فإن المحرّم ليس إلاّ الكلب والخنزير وأشياء قليلة غيرهما ، والمحرّم من المشروب الخمر ونحوها من المسكر ؛ وما عدا ذلك حلال أكلُه وشربه .
فإن قلت : فكيف قال : « إنّ الذي أُمِرتم به » فسمّى المباح مأموراً به؟
قلت : قد سمّى كثير من الأُصوليين المباح مأموراً به ، وذلك لاشتراكه مع المأمور به في أ نّه لا حرج في فعله ، فأُطلق عليه اسمه . وأيضاً فإنه لَمّا كان كثير من الأُمور التي عددناها مندوباً أُطلق عليه لفظ الأمر ؛ لأنّ المندوب مأمور به ، وذلك كالنّكاح والتسرّي وأكل اللحوم التي هي سبب قوة البدن ، وشرب ما يصلح المزاج من الأشربة التي لا حَرَج في استعمالها .
ثم أمر بالعمل والعبادة ، ونهى عن الحِرْص على طلب الرزق ، فقال : إنّكم أُمِرْتم بالأوّل

1.ديوان المتنبّي ۴ : ۷۳ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
402

ولا ماضٍ يرتد » ، أي يسترد ويسترجع ، أخذه أبو العتاهية فقال :

فلا أنا راجعٌ ما قد مضى لِيوَلا أنا دافعٌ ما سوف يأتي
وإلى قوله : « ما أقرب الحيّ من الميت للحاقه به ، وما أبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه » نظر الشاعر ، فقال :

يا بعيداً عَنّي وليس بعيدامن لحاقي به سميع قريبُ
صِرْتُ بين الورى غريبا كما أنــك تحت الثرى وحيد غريبُ
فإن قلت : ما وجه تقسيمه عليه السلام الأمورَ التي عدّدها إلى الفناء والعناء ، والغِيَر والعبَر؟
قلت : لقد أصاب الثّغرة وطبّق المفصِل ؛ ألا تراه ذكَر في الفناء رَمْيَ الدهر الإنسان عن قَوْس الردى ، وفي العناء جَمْع ما لا يأكل ، وبناء ما لا يسكن ، وفي الغِيَر الفقر بعد الغنى والغنى بعد الفقر ، وفي العِبَر اقتطاع الأجل الأمل ؛ فقد ناط بكلّ لفظة ما يناسبها .
وقد نظر بعضُ الشعراء إلى قوله عليه السلام : « ليس شيء بشرّ من الشرّ إلاّ عقابُهُ ، وليس شيء بخير من الخير إلاّ ثوابه » فقال :

خير البضائع للإنسان مكرُمةتَنْمِي وتزكو إذا بارت بضائعهُ
فالخير خيرٌ ، وخير منه فاعلُهوالشرّ شرّ ، وشرّ منه صانعهُ
إلاّ أن أمير المؤمنين عليه السلام استثنى العقاب والثواب ، والشاعر جعل مكانهما فاعل الخير والشرّ. ثم ذكر انّ كلّ شيء من أُمور الدنيا المرغبة والمرهبة ، سماعه أعظم من عِيانه ، والآخرة بالعكس ، وهذا حقّ ؛ أمّا القضيّة الأُولى فظاهرة ، وقد قال القائل :

أهتزُّ عند تمنّي وصْلِها طرباوربّ أُمنيّة أحْلَى من الظَّفَر
ولهذا يحرِص الواحد منّا على الأمر ، فإذا بلغه بَرَد وفتر ، ولم يجده كما كان يظنّ في اللذة . ويوصف لنا البلد البعيد عَنّا ، بالخِصب والأمن والعدل ، وسماح أهله ، وحسن نسائه ، وظَرْف رجاله ، فإذا سافرنا إليه لم نجده كما وصَفَ ؛ بل ربما وجدنا القليل من ذلك . وكذلك قد يخاف الإنسان حبساً أو ضرباً أو نحوهما فإذا وقع فيهما هان ما كان يتخَوّفه ، ووجد الأمر دون ذلك ، وكذلك القتل والموت ؛ فإنّ ما يستعظِمُه النّاس منهما دون أمرهما في الحقيقة . ويقال في المثل : لجِ الخوف تأمن . وأمّا أحوالُ الآخرة فلا ريب أنّ الأمر فيها بالضدّ من ذلك ؛ لأنّ الذي يتصوره الناس من الجنة أنّها أشجار وأنهار ومأوكول ومشروب ، وجماع ، وأمرها في الحقيقة أعظمُ من هذا وأشرفُ ؛ لأنّ ملاذّها الروحانية المقارنة لهذه الملاذّ المضادّة لها أعظم من هذه الملاذّ بطبقات عظيمة ، وكذلك أكثر الناس يتوهّمون أنّ

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 91716
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي