عذاب النار يكون أياماً وينقضي ، كما يذهب إليه المرجئة ، أو أنه لا عذاب بالنار للمسلم أصلاً ، كما هو قول الخلّص من المرجئة ، وأنّ أهل النار يألفون عذابها فلا يستضرّون به إذا تطاول الأمد عليهم ، وأمر العذاب أصعب مما يظنّون ، خصوصا على مذهبنا في الوعيد ؛ ولو لم يكن إلاّ آلام النفوس باستشعارها سخط اللّه تعالى عليها ، فإنّ ذلك أعظمُ من ملاقاة جرْم النار لبدن الحيّ . ثم أمرهم بأن يكتفوا من عِيان الآخرة وغيبها بالسماع والخبَر ، لأ نّه لا سبيل ـ ونحن في هذه الدار ـ إلى أكثر من ذلك .
وإلى قوله : « ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خيرٌ مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا » نظر أبو الطيب ۱ ، فقال ـ إلاّ أ نّه أخرجه في مخرج آخر ـ :
بلاد ما اشتهيتَ رأيتَ فيهافليس يفوتها إلاّ كِرَامُ
فهلاّ كان نقصُ الأهل فيهاوكان لأهلها منها الَّتمامُ
ثم قال : فكم من منقوص في دنياه وهو رابح في آخرته ، وكَمْ من مزيد في دنياه وهو خاسر في آخرته . ثم قال : إنّ الذي أُمِرتم به أوسع من الذي نُهيتم عنه ، وما أُحِلّ لكم أكثر مما حُرّم عليكم » ، الجملة الأولى هي الجملة الثانية بعينها ، وإنما أتى بالثانية تأكيداً للأُولى وإيضاحاً لها ، ولأنّ فنّ الخطابة والكتابة هكذا هو ، وينتظم كلتا الجملتيْن معنى واحد ، وهو أنّ فيما أحلّ اللّه غنىً عَمّا حَرّم ، بل الحلالُ أوسع ؛ ألا ترى أنّ المباح من المآكل والمشارب أكثرُ عدداً وأجناساً من المحرّمات ! فإن المحرّم ليس إلاّ الكلب والخنزير وأشياء قليلة غيرهما ، والمحرّم من المشروب الخمر ونحوها من المسكر ؛ وما عدا ذلك حلال أكلُه وشربه .
فإن قلت : فكيف قال : « إنّ الذي أُمِرتم به » فسمّى المباح مأموراً به؟
قلت : قد سمّى كثير من الأُصوليين المباح مأموراً به ، وذلك لاشتراكه مع المأمور به في أ نّه لا حرج في فعله ، فأُطلق عليه اسمه . وأيضاً فإنه لَمّا كان كثير من الأُمور التي عددناها مندوباً أُطلق عليه لفظ الأمر ؛ لأنّ المندوب مأمور به ، وذلك كالنّكاح والتسرّي وأكل اللحوم التي هي سبب قوة البدن ، وشرب ما يصلح المزاج من الأشربة التي لا حَرَج في استعمالها .
ثم أمر بالعمل والعبادة ، ونهى عن الحِرْص على طلب الرزق ، فقال : إنّكم أُمِرْتم بالأوّل