519
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

وذلك أنّ الآخرة اليوم عَدَمٌ محضٌ ، والإنسان قَدِم من العدَم ، وإلى العدم ينقلب ؛ فقد صحّ أنه قَدِم من الآخرة ويرجع إلى الآخرة .
وروي : « أنّ العالم بالبصَر » أي بالبصيرة ، فيكون هو وقوله : « فالناظر بالقلب » ، سواء ؛ وإنما قاله تأكيدا ، وعلى هذا الوجه لا يحتاج إلى تفسير وتأويل ، والمراد بالبصر هاهنا البصيرة ، فيصير تقدير الكلام : فالناظر بقلبه ، العامل بجوارحه يكون مبتدأ عمله بالفكر والبصيرة ، بأن يعلم : أَعَمَلُه له أم عليه!
ويروى : « كالسابل على غير طريق » ، والسابل : طالب السبيل ؛ وقد جاء في الخبر المرفوع : « مَنْ عمِل بغير هدى ، لم يزدد من اللّه إلاّ بعداً » .

الأصْلُ :

۰.وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ ، فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ ، وَمَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ . وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم : «إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ ، وَيُبْغِضُ عَمَلَهُ ، وَيُحِبُّ الْعَمَلَ وَيُبْغِضُ بَدَنَهُ» .

الشّرْحُ :

هذا الكلام مشتقّ من قوله تعالى : « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إلاَّ نَكِدا »۱ ، وهو تمثيل ضربه اللّه تعالى لمن ينجع فيه الوعظ والتذكير من البشر ؛ ولمن لا يؤثّر ذلك فيه ، مثّله بالأرض العذبة الطيبة تخرج النبْت ، والأرض السبخة الخبيثة لا تنبت ؛ وكلام أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا المعنى يومِئ . يقول : إن لكلتا حالتِي الإنسان الظاهرة أمرا باطنا يناسبها من أحواله ؛ والحالتان الظاهرتان : ميله إلى العقل وميله إلى الهوى ؛ فالمتّبع لمقتضى عقله يرزق السعادة والفوز ؛ فهذا هو الذي طاب ظاهره ، وطاب باطنه ، والمتّبع لمقتضى هواه وعادته ودين أسلافه يرزق الشّقاوة والعطب ؛ وهذا هو الذي خبُث ظاهره وخَبُث باطنه .

1.سورة الأعراف ۵۸ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
518

وَإِلَيْهَا يَنْقَلِبُ . فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ ، الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ ، يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ : أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ ؟ ! فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عَنْهُ . فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غيْرِ طَرِيقٍ . فَـلاَ يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلاَّ بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ .وَالْعَامِلُ بالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ . فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ : أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ ؟!

الشّرْحُ :

قوله : « فيهم » يرجع إلى آل محمد صلى الله عليه و آله وسلم الذين عناهم بقوله : « نحن الشّعار والأصحاب » ، وهو يطلق دائما هذه الصيغ الجمعية ، ويعنى نفسَه ، وفي القرآن كثير من ذلك . وكرائم الإيمان : جمع كريمة وهي المنفسات منه ، قال الشاعر :

ماضٍ من العيش لو يفدى بذلتُ لهكرائم المال من خيل ومن نَعَمِ
فإن قلت : أيكون في الإيمان كرائم وغير كرائم ؟ قلت : نعم ؛ لأنّ الإيمان عند أكثر أصحابنا اسم للطّاعات كلّها واجبها ونفلها ، فمن كانت نوافله أكثرَ كانت كرائم الإيمان عنده أكثر ، ومن قام بالواجبات فقط من غير نوافل ، كان عنده الإيمان ، ولم يكن عنده كرائم الإيمان.
قوله : « وهم كنوز الرحمان » ؛ لأنّ الكنز مال يدّخر لشديدة أو ملمّة تلمّ بالإنسان ، وكذلك هؤلاء قد ذخروا لإيضاح المشكلات الدينية على المكلفين . ثم قال : إن نطقوا صدقوا، وإن سكتوا لم يكن سكوتهم عن عيّ يوجب كونَهم مسبوقين؛ لكنّهم ينطقون حُكْماً، ويصمُتون حلماً . ثم أمر عليه السلام بالتقوى والعمل الصالح ، وقال : « ليصدق رائدٌ أهلَه » ، الرائد : الذاهب من الحيّ يرتاد لهم المرعى ؛ وفي أمثالهم : « الرائد لا يكذِب أهلَه » ، والمعنى أ نّه عليه السلام أمر الإنسان بأن يصدُق نفسَه ولا يكذبَها بالتسويف والتعليل . « فإنه منها قدم » ؛ قد قيل : إن اللّه تعالى خَلَق أرواح البشر قبل أجسادهم والخبر في ذلك مشهور والآية أيضاً ؛ وهي قوله تعالى : « وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ »۱ . ويمكن أنْ يفسّر على وجه آخر ؛

1.سورة الأعراف ۱۷۲ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 87774
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي