599
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

الإنسان بعيب نفسه عن عيوبهم . وقد ورد في العزلة أخبار آثار كثيرة ؛ واختلف الناس قديما وحديثا فيها ، ففضّلها قوم على المخالطة ، وفضّل قوم المخالطة عليها . فأمّا كلام أمير المؤمنين عليه السلام فيقتضي عند إمعان النظر فيه أنّ العزلة خيرٌ لقوم ، وأن المخالطةَ خيرٌ لقوم آخرين على حسب أحوال الناس واختلافهم .

178

الأصْلُ :

۰.ومن كلام له عليه السلام في معنى الحكمين۱ومن كلام له عليه السلام في معنى الحكمين ۲
فأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَيْنِ ، فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا عِنْدَ الْقُرْآنِ ، وَلاَ يُجَاوِزَاهُ ، وَتَكُونَ أَلْسِنَتُهُما مَعَهُ وَقُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ ، فَتَاهَا عَنْهُ ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا ، وَالاْعْوِجَاجُ دأبَهُما ؛ وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا . وَالثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لاِنْفُسِنَا ، حِينَ خَالَفَا سَبِيلَ الْحَقِّ ، وَأَتَيَا بِمَا لاَ يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ الْحُكْمِ .

الشّرْحُ :

الملأ : الجماعة . ويجعجعا : يحبسا نفوسهما وآراءهما عند القرآنِ . جعجعت ، أي حبست ، أخذت عليهما العهد والميثاق أن يعملا بما في القرآن ولا يتجاوزاه . فتاها عنه ، أي عدلا ، وتركا الحق على عِلْم منهما به . والدأب : العادة ، و « سوءَ رأيهما » منصوب ؛ لأ نّه مفعول « سبق »، والفاعل « استثناؤنا » . ثم قال : « والثّقة في أيدينا » ، أي نحن على برهان وثقة من أمرنا ، وليس بضائرٍ لنا ما فعلاه ؛ لأنّهما خالفَا الحقّ ، وعدلا عن الشرط وعكسا الحكم .

1.هذه الخطبة إشارة إلى قصة الحكمين في صفين ، وقد تقدّم نحوها في الخطبة ۳۵ ، ۳۶ ، وأسهب الشارح في الحديث عن هذه المهزلة التأريخية التي ختمها الحكمان بمخالفة الكتاب الكريم ، والعهد والميثاق ، وبترك الحق على علم منهما به .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
598

وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضُهُمْ بَعْضاً .
الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِالْمُدَى وَلاَ ضَرْباً بِالسِّيَاطِ ، وَلكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذلِكَ مَعَهُ . فَإِيَّاكُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللّهِ ، فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيَما تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ ، خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيَما تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ . وَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى ، وَلاَ مِمَّنْ بَقِيَ .
يَا أيُّهَا النَّاسُ طُوبى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ ، وَطُوبى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ ، وَأَكَلَ قُوتَهُ ، وَاشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ ، فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُلٍ ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ!

الشّرْحُ :

قسّم عليه السلام الظلم ثلاثة أقسام :
أحدها : ظلمٌ لا يغفر ؛ وهو الشِّرْك باللّه ، أي أن يموت الإنسان مصِرّا على الشِّرْك .
وثانيها : الهَنات المغفورة ، وهي صغائر الذنوب ؛ هكذا يفسّر أصحابنا كلامه عليه السلام .
وثالثها : ما يتعلّق بحقوق البَشر بعضِهم على بعض ؛ فإنّ ذلك لا يتركه اللّه هَمَلاً ، بل لابدّ من عقاب فاعله ؛ وإنما أفردَ هذا القِسْم مع دخوله في القِسم الأول لتميُّزه بكونه متعلِّقا بحقوق بني آدم بعضِهم على بعض ؛ وليس الأوّل كذلك .
ثم ذكر عليه السلام أنّ القِصاص في الآخرة شديدٌ ؛ ليس كما يعهده الناس من عقاب الدّنيا الذي هو ضرب السوط ؛ وغايته أنْ يذوق الإنسان طعم الحديد ؛ وهو معنى قوله : « جرحا بالمُدى » ، جمع مُدية وهي السكّين ؛ بل هو شيء آخر عظيم لا يعبّر النطق عن كُنْهِه وشدّة نَكاله وألِمه .
ثم نهاهم عليه السلام عن التفرّق في دين اللّه ؛ وهو الاختلاف والفرقة ؛ ثم أمرهم باجتماع الكلمة ، وقال : إنّ الجماعة في الحقّ المكروه إليكم ، خير لكم من الفرقة في الباطل المحبوب عندكم ؛ فإنّ اللّه لم يعطِ أحدا خيرا بالفرقة ؛ لا ممّن مضى ، ولا ممّن بَقيَ .
ثم أمر عليه السلام بالعزلة ، ولزوم البيت والاشتغال بالعبادة ، ومجانبه الناس ومتاركتهم واشتغال

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 88612
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي