549
منتخب موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام

إبادة هذا التيّار واقتلاع جذور الفتنة من مفاخر عصر خلافته ، فقد قال عليه السلام :
«إنّي فَقَأتُ عَينَ الفِتنَةِ ، ولَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري» ۱ .
إنّ قتالَ أدعياء الحقّ ؛ القرّاء الذين كانت ترنيمات القرآن قد ملأت حياتهم ، وجرى على السنتهم نداء «لا حُكْم إلّا للّه » وهم بِسيَرٍ ربّانيّة الظاهر ، عملٌ جدُّ عسير ؛ فهؤلاء كانوا يُحيون الليل بالعبادة ، ويخرّون للأذقان سُجّدا سجدات طويلة ، وجباههم ثفنات من كثرة السجود . وكانوا لا يعرفون حدّا لانتقاد غيرهم ، واشتُهروا بوصفهم رجالاً اُولي شأنٍ وقوّةٍ في الدين . لكن واأسفاه ! إذ كانوا مرضى القلوب ، ضيّقي الأفكار ، صغار العقول .
من هنا كان الاصطدام بتيّار «التعمّق» ـ بناءً على ما ذُكر ـ ممّا لم يقدر عليه يومئذ إلّا الإمام عليه السلام وكان قمعه يتطلّب بصيرة وحزما خاصّا متميّزا لم يقدر عليه سوى عليّ عليه السلام . وهذه الكلمة كلمته المشهورة التي نطق بها بعد قتال الخوارج لم يَقُلها ـ لذلك ـ في حربه مع «الناكثين» و«القاسطين» فإنّه ما قال في قتال هاتين الطائفتين : «لَم يَكُن لِيَجتَرِئَ عَلَيها أحَدٌ غَيري» أو «لَولا أنَا ما قُوتِلَ . . .» ، بيد أنّه قال ذلك في قتال الخوارج .

جذور التعمّق

لننظر الآن من أين ظَهَر هذا التيّار ، وكيف ؟ ولماذا ظهر إنّ دراسة جذور هذا التيّار ، والوقوف على بواعث انحراف أصحابه يعتبران من أهمّ موضوعاته وتتجلّى أهميّة هذه الدراسة بملاحظة إخبار النبيّ صلى الله عليه و آله والإمام عليّ عليه السلام باستمرار هذا التيّار عبر التاريخ الإسلامي ، وأنّ مقارعة التطرّف والإفراط ، واليقظة والحذر منهما حاجة

1.شرح نهج البلاغة : ج ۷ ص ۴۴ .


منتخب موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام
548

القدرة على صنع قراره في الحرب والسلم ، والسياسة والإدارة ؛ وتخرج الاُمور المهمّة من يده . فلذا واجه عليه السلام هذا الطلب الجهول بكلّ قوّة ، لكنّ اُولئك القرّاء بدل أن يتأمّلوا في هشاشة موقفهم الأحمق هذا ، افترقوا ـ عند الرجوع من صفّين ـ عن أمير المؤمنين وإمام المتديّنين ؛ انطلاقا من «التعمّق» في الدين والإفراط في السلوك المشين ، وعسكروا في «حروراء» قريبا من الكوفة .

انقلاب «القرّاء» إلى «المارقين»

أجَل ، تحقّقت نبوءة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ وإذا الذين كانوا بالأمس وجوه المسلمين البارزة ، وممّن جمعوا في حياتهم بين الجهاد والقتال ، والزهد والعبادة ، يقفون اليوم أمام الدين وإمام المسلمين بسبب إصابتهم بداء التعمّق والتطرّف ؛ متذرّعين بذريعة الدفاع عن ساحة القرآن وحريم الدين . وهكذا أخرجهم داء الإفراط والتطرّف من الدين حتى لم يبق في نفوسهم للدين من أثر .
وهكذا استحقّوا عنوان «المارقين» الذي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد وصفهم به من قبل . وممّا كان صلى الله عليه و آله قد قاله للإمام عليه السلام :
«يا عَلِيُّ ! لَولا أنتَ لَما قوتِلَ أهلُ النَّهرِ ، قالَ : فَقُلتُ : يا رَسولَ اللّهِ ! ومَن أهلُ النَّهرِ ؟ قالَ : قَومٌ يَمرُقونَ مِنَ الإِسلامِ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» ۱ .

الإمام عليه السلام ومباهاته باجتثاث فتنة «التعمّق»

اتّضح ممّا ذكرناه إلى الآن حول تيّار «التعمّق» والوجوه المنتمية إليه أنّ الاصطدام به كان عملاً صعبا ، وحقيقة الأمر أنّ استئصال جذور هذه الفتنة ـ التي كانت في ظاهرها تيّارا وطيدا في التديّن ـ عملٌ في غاية الإعضال ، وكان الإمام عليه السلام يرى أنّ

1.الأمالي للطوسي : ص ۲۰۰ ح ۳۴۱، بحار الأنوار : ج ۳۳ ص ۳۲۵ ح ۵۷۰ .

  • نام منبع :
    منتخب موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام
    المساعدون :
    غلامعلي، مهدي
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دار الحديث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1388
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 285878
الصفحه من 987
طباعه  ارسل الي