[ شواهد على أخذ أخبار التهذيبين من الكتب ]
وبعد هذا أقول : إنّ الشيخ قد أكثر في أوائل التهذيب في الرواية عن الشيخ المفيد . ۱ وروى في أوّل التهذيب عن أحمد بن محمّد، عن أبيه ، عن الحسين بن حسن بن أبان ، عن الحسين بن سعيد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن سماعة . ۲ وروى عند الكلام في الأغسال المسنونة إلى أن اتّصل الإسناد بالحسين بن سعيد على
الوجه المذكور ، ۳ ثمّ عبّر عنه بعد هذا برواية الحسين بن سعيد . ۴ ومقتضاه كون الرواية مأخوذةً من كتاب الحسين بن سعيد ، وإلاّ لما كان نسبة الرواية إلى الحسين بن سعيد مناسبةً ، بل كان المناسب النسبةَ إلى صدر السند ، فما قبل الحسين بن سعيد من مشايخ الإجازة.
والظاهر أنّ الحال في الرواية الأولى على منوال الحال في الرواية الثانية ، وما ذكر ينافي ما تعهّده من أخذ الرواية من كتاب صدر المذكورين في التهذيب ؛ إذ على ما ذكر يكون صدر المذكور وغيره من غير واحد ممّن تأخّر عن الصدر من مشايخ الإجازة .
وربّما ترك ذكر مشايخ الإجازة في أوائل الاستبصار ، بل في الجزءين الأوّلين ، بل هو غير عزيز .
وهذا ينافي ما تعهّده من عدم حذف الطريق في الجزءين الأوّلين من الاستبصار ، بل ذكر المحقّق الشيخ محمّد أنّ الحال في الجزءين الأوّلين والجزء الأخير على السويّة ، ۵ فهو قد ذكر في التهذيب ما تعهَّد ترْكَ ذكره ، وترك في الاستبصار ذكْرَ ما تعهّد ترْكَ ذكره . فالأمر في التهذيب والاستبصار متعاكس الحال .
وابتدأ في التهذيب أيضا مع حذف الطريق ببعض مشايخ الإجازة فما ذكر هنا من الاشتباه ـ مضافا إلى ما مرّ من الكلمات في باب اشتباهات الشيخ ، ومضافا إلى ما يظهر ممّا يأتي ، ومضافا إلى غير ذلك ـ يمانع عن الوثوق بما تعهّده كما ذكره في آخر التهذيب والاستبصار من أخذ الرواية من كتاب صدر المذكور ؛ لاحتمال كون الأمر من باب الاشتباه ، ولا سيّما مع ما تقدّم من السيّد السند النجفي من نقل
إطباق المحقّقين من أصحابنا والمحصّلين منهم على لزوم نقد الطريق . ۶
نعم ، كون المحذوف في الفقيه من باب مشايخ الإجازة خالٍ عن المانع ، إلاّ أن أصل المقتضي أعني العبارة الدالّة على الأخذ من كتب صدور المذكورين محلّ الإشكال ؛ لاحتمال كون الغرض أخذَ الرواية من الكتاب ، ولو كان الكتاب كتاب بعض المحذوفين .
ويمكن أن يقال : إنّ احتمال كون الحذف في التهذيبين من باب الاختصار مع جميع ما ذكر ـ يكون ما تعهّده الشيخ من الأخذ من كتاب صدر المذكور في التهذيب والجزء الأخير من الاستبصار من باب الاشتباه ـ بعيد .
وقد يقال : إنّ من أوضح الشواهد على أنّ أخبار التهذيب والاستبصار مأخوذة من الكتب ، والوسائطُ من مشايخ الإجازة أنّ الكليني روى في باب صفة الوضوء ماصورته :
عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أُذينه ، عن زرارة وبكير أنّهما سألا أبا جعفر عليه السلام عن وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فدعا بطست أو تور ۷ فيه ماء فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة ، فصبّها على وجهه ، فغسل بها وجهه ، ثمّ غمس كفّه اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردّها إلى المرفق ، ثمّ غمس كفّه اليمنى فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق وصنع بها مثل ما صنع باليمنى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفّه ، لم يحدث لهما ماءً جديدا .
ثمّ قال : «ولا يدخل أصابعه تحت الشراك» ۸ قال : ثمّ قال : «إنّ اللّه
عزّوجلّ يقول : «يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ»۹ فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلاّ غسله وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين ، فليس له أن يدع شيئا من يديه إلى المرفقين إلاّ غسله لأنّ اللّه يقول : «فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ» .
ثمّ قال : «وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع ، فقد أجزأه» .
قال : فقلنا : أين الكعبان؟
قال : «هاهنا» يعني المفصل دون عظم الساق ، فقلنا : هذا ما هو؟
فقال : «هذا من عظم الساق والكعبُ أسفلُ من ذلك» .
فقلنا : أصلحك اللّه فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه ، وغرفة للذراع؟
قال : «نعم ، إذا بالغت فيها والثنتان تأتيان على ذلك كلّه» . ۱۰
وقد ذكر الشيخ هذا الحديث بطوله في التهذيب لكنّه فرّقه في مواضعَ ، فذكر في كلّ موضع حكما يناسب الموضع ، فرواه في أربعة مواضعَ ، فروى عند الكلام في عدم جواز الإقبال في غسل اليدين ما صورته :
أخبرني الشيخ ، عن أحمد بن محمّد، عن أبيه ، عن سعد بن عبد اللّه ، عن أحمد بن محمّد، عن عثمان بن عيسى ، عن ابن أُذينه ، عن بكير وزرارة ابني أعين أنّهما سألا أبا جعفر عليه السلام عن وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فدعا بطست أو بتور فيه ماء ، فغسل كفّيه ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في التور فغسل وجهه بها ، واستعان بيده اليسرى بكفّه على غسل وجهه ، ثمّ غمس كفّه اليسرى في الماء ، فاغترف بها من الماء ، فغسل يده اليمنى من المرفق
إلى الأصابع لا يردّ الماء إلى المرفقين ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في الماء ، فاغترف بها من الماء فأفرغه على يده اليسرى من المرفق إلى الكفّ لا يردّ الماء إلى المرفق كما صنع باليمنى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه لم يجدّد ماء . ۱۱
لكن في أجزاء عبارة الكافي والتهذيب اختلافات لا تخفى .
وروى عند الكلام في مسح الرجلين ما صورته :
أخبرني الشيخ، عن أحمد بن محمّد، عن أبيه، عن الحسين بن الحسن بن أبان ، عن الحسين بن سعيد ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أُذينه ، عن زرارة وبكير ابني أعين أنّهما سألا أبا جعفر عليه السلامعن وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، إلى أن انتهى إلى آخر ما قال اللّه تعالى : «وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ» فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى آخر أطراف الأصابع فقد أجزأه فقلنا: أصلحك اللّه فأين الكعبان؟ قال: «هاهنا» يعني المفصل دون عظم الساق» فقالا : هذا ما هو؟ قال : «عظم الساق» . ۱۲
وروى عند الكلام في كفاية المرّة في غسل الوجه واليدين ما صورته :
أخبرني الشيخ عن أبي القاسم جعفر بن محمّد، عن محمّد بن يعقوب ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أُذينه ، عن زرارة وبكير أنّهما سألا أبا جعفر عليه السلام عن وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فدعا بطست ـ وذكر الحديث إلى أن قال ـ : فقلنا : أصلحك اللّه فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة للذراع؟ فقال : «نعم ، إذا بالغت فيها وثنتان تأتيان على ذلك كلّه» . ۱۳
وروى عند الكلام في كفاية الإصبع في مسح الرأس والرجل ما صورته :
أخبرني الشيخ قال : أخبرني أحمد بن محمّد ، عن أبيه ، عند سعد بن عبداللّه ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد وأبيه ۱۴ محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن عمر بن أُذينه ، عن زرارة وبكير ابني أعين ، عن أبي جعفر عليه السلامأنّه قال في المسح : «تمسح على النعلين ولا تدخل يدك تحت الشراك ، وإذا مسحت بشيء من رأسك أو بشيء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك» . ۱۵
ومثل هذا كثير في الكتابين .
أقول : تحرير ذلك المقال أنّ الشيخ كثيرا مّا فرّق المتن الواحد المرويّ في الكافي المشتمل على أحكام على الأحكام ، ورواها بأسانيدَ مختلفة مشتركة في الراوي عن المعصوم أو مع الراوي عن الراوي مثلاً ، فالوسائط المتوسّطة بين الشيخ والقدر المشترك بين الأسانيد من باب مشايخ الاءجازة ، والقطعات مأخوذة من كتاب القدر المشترك ، فمقتضاه أنّ بناء الشيخ كان على الأخذ من الكتب ، فرجال الطرق من باب مشايخ الإجازة .
وإن قلت : إنّه يحتمل أن يكون اختلاف الأسانيد إلى القدر المشترك من جهة تفريق الرواية من القدر المشترك على قطعات بأن رواها القدرُ المشتركُ تارةً بتمامها لبعض ، وأُخرى روى قطعاتِها لأبعاض .
قلت : إنّ تفريق الرواية على القطعات بعيد ، حيث إنّ التفريق من أصله غير معهود ـ وإن وقع من بعض أرباب جمع الأخبار ـ ولا سيّما مع وجود القدر المشترك بين أحكام القطعات ، كما في المورد المذكور ؛ لكون القطعات في بيان وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله .
نعم ، ذكر طرق الإجازة على وجه الاختلاف بالنسبة إلى القطعات بعيد أيضا ، مع فرض كون الطرق طرقَ مجموع كتاب القدر المشترك ، لكن مناسبة الأبواب للقطعات توجب ظهور كون اختلاف الأسانيد من جهة اختلاف طرق الإجازة ، لا تفريق الرواية.
لكنّك خبير بأنّ غاية ما يتمشّى من ذلك أنّ الشيخ كان يأخذ من الكتاب ، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون الأخذ من كتاب صدر المذكور حتّى يكون رجال الطرق من باب مشايخ الإجازة ولا يلزمَ نقد الطرق ، بل يمكن أن يكون أخذ الرواية من كتاب بعض المحذوفين ، إمّا الأوائل أو الأواسط أو الأواخر ، فيلزمَ نقد البعض ، وكذا نقد من تقدّم على البعض دون من تأخّر عنه أعني من توسّط بين الشيخ والبعض ، فلا يثبت عدم لزوم النقد بالكلّيّة كما هو المقصود ، بل يلزم نقد جميع رجال الطرق ؛ لعدم الاطّلاع على حقيقة الحال .
نعم ، لو وقع الاطّلاع على حقيقة الحال ، ينحصرلزوم النقد فيمن أخذ عن كتابه ومن تقدّم عليه .
وقد يقال : إنّه يشهد على كون أخبار التهذيب والاستبصار مأخوذة من الكتب تكرارُ الشيخ للمتن الواحد بأسانيدَ مختلفةٍ ، بعضها واضح الصحّة ، وبعضها واضح الضعف خصوصا الاستبصار .
أقول : إنّه إن كان المقصود تعدّدَ الأسانيد ، أي تعدّدَ المذكورين بتعدّد الرواة عن المعصوم ، فلا امتساس له بالدلالة على كون روايات التهذيبين مأخوذة من الكتب فضلاً عن كتب صدورالمذكورين ، وإن كان المقصود تعدّد الأسانيد مع الاشتراك في الراوي عن المعصوم ، أو مع الراوي عن الراوي نظير ما مرّ في المقالة السابقة ـ كما هو الظاهر بل بلا إشكال ـ فيتأتّى فيه الإشكال بما تقدّم الإشكال به على المقالة السابقة ، مضافا إلى أنّه ليس حمل تعدّد السند على تعدّد سند الرواية أولى من الحمل على تعدّد طريق الإجازة .
وإن قلت : إنّ وجود السند الصحيح الواضحِ صحّتُه إلى القدر المشترك يغني عن ذكر السند الواضحِ ضعفُه إليه .
قلت : لا بأس بذكر السند الواضح ضعفه إلى القدر المشترك ، مع وجود السند الواضح صحّته إليه ، كيف ، ولا بأس بذكر الرواية الواضح ضعفها ، مع وجود الرواية الواضح صحّتها ، مع عدم وجود قدر مشترك من الرواة في البين ، وهو واقع كثيرا ، فكما لا بأس بما ذكر ، فكذا لا بأس بذكر السند الواضح ضعفه إلى القدر المشترك في مورد الفرض مع وجود السند الواضح صحّته إليه ، مع أنّ ذكر الطريق الواضح صحّته يغني عن ذكر السند الواضح ضعفه .
1.التهذيب ۱ : ۶ ، ح ۱ و ۲ و ۳ و .. . باب الأحداث الموجبة للطهارة .
2.التهذيب ۱ : ۶ ، ح ۱ ، باب الأحداث الموجبة للطهارة .
3.التهذيب ۱ : ۱۱۰ ، ح ۲۹۰ ، باب الأغسال المفترضات والمسنونات .
4.التهذيب ۱ : ۱۱۳ ، ذيل ح ۳۰۱ ، باب الأغسال المفترضات والمسنونات .
5.استقصاء الاعتبار ۲ : ۳۶ .
6.رجال السيّد بحر العلوم ۴ : ۷۷ ، الفائدة الرابعة .
7.الطست يروى بالمهملة والمعجمة . والتور ـ بفتح التاء ـ إناء يشرب فيه . والترديد من الراوي .
8.الشراك ـ بكسر الشين ـ سير النعل على ظهر القدم .
9.المائدة (۵) : ۶ .
10.الكافي ۳ : ۲۵ ، ح ۵ ، باب صفة الوضوء .
11.التهذيب ۱ : ۵۶ ، ح ۱۵۸ ، باب صفة الوضوء .
12.التهذيب ۱ : ۷۶ ، ح ۱۹۱ ، باب صفة الوضوء .
13.التهذيب ۱ : ۸۱ ، ح ۲۱۱ ، باب صفة الوضوء .
14.أي روى أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسين بن سعيد و عن أبيه محمّد بن عيسى .
15.التهذيب ۱ : ۹۰ ، ح ۲۳۷ ، باب صفة الوضوء .