الثامن والستّون : [ في عهود الصدوق ]
أنّه قد تعهّد الصدوق أن يحذف الأسانيد رأسا ، ۱ لكنّه تخلّف عن العهد بعد فصل قليل ، كما مرّ ، حيث ذكر أنّه حذف شطرا من السند وأحال الحال على ما ذكره في الآخر .
والظاهر أنّه غير مسبوق فيه بسابق من الخاصّة والعامّة ، كما هو مقتضى ما تقدّم عن المولى التقيّ المجلسي . ۲
إلاّ أنّه إنّما يتّجه لو كان المحذوف من باب الواسطة في الرواية ، وأمّا لو كان من باب مشايخ الإجازة ، فالأمر على وَتِيرة سائر الأخبار المسندة في كتب الأخبار من كتب الخاصّة والعامّة .
وقد تعهّد أيضا أن يستخرج جميع أخبار الفقيه من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع . ۳
لكنّ المولى التقيّ المجلسي قد ذكر أنّه جرى على نقض العهد ، قال :
والذي يخطر بالبال دائما أنّ قول المصنّف في أوّل الكتاب : «إنّ جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع» أنّه كان في باله أوّلاً أن يذكر في هذا الكتاب الأخبار المستخرجة منها ، ثمّ آل القول إلى أن ذكر فيه من غير تلك الأخبار أيضا ؛ لأنّه ذكر عن جماعة ليس بمشهور أنفسُهم ولا كتبهم ، أو يكون المراد بالجميع الأكثرَ . ۴
لكنّهما ۵ سوء الظنّ بالمصنّف ، بل بأكثر الأصحاب فإنّهم ذكروا مراسيله وذكروا أنّ الصدوق ضمن صحّة جميع ما في كتابه ، بل الظاهر أنّ الجماعة الذين ليسوا بمشهورين عندنا كانوا مشهورين عنده وعند سائر القدماء .
وقد حكى المولى المشار إليه عن بعض الأصحاب أنّ المقصود الاستخراج من الأصول الأربعمائة . لكنّه خلاف الظاهر ، مع أنّه حكى المولى المشار إليه أنّ جماعة ممّن روى الصدوق عنه ليسوا من أهل الأصول وإن أمكن أن يكون الأكثر منهم .
والظاهر ـ بل بلا إشكال ـ أنّ الغرض من كون الغرض الاستخراجَ من الأصول الأربعمائة هو كون صدور المحذوفين أربابَ الأصول ، فدعوى أنّ جماعة ممّن روى الصدوق عنه ليسوا من أهل الأصول وإن أمكن أن يكون الأكثر منهم إنّما هي بالنسبة إلى صدور المحذوفين ؛ حيث إنّ قصد الصدوق كان حذفَ الأسانيد بالكلّيّة ، فالغرض من الاستخراج من الكتب المشهورة المعتبرة إنّما هو الاستخراج من كتب صدور المحذوفين ، وتأويل العبارة بالاستخراج عن كتب أصحاب الأصول إنّما يجري على الاستخراج من كتب صدور المحذوفين ، وكذا تزييف التأويل بخروج جماعة ممّن روى عنه الصدوق عن أهل الأصول وإن أمكن أن يكون الأكثر منهم .
وقد تعهّد أيضا أن لا يقصد قصدَ المصنّفين من إيراد ما رووه ، فلا يذكر ما يعارض ما يفتي به . ۶
لكن ربّما قيل: إنّه جرى أيضا على نقض العهد؛ حيث إنّه ذكر في بعض أبواب الفقيه أخبارا متضادّة كما في باب الرجلين يوصى إليهما فينفرد كلّ منهما بنصف التركة ، حيث إنّه بعد أن روى نفسُه توقيع العسكري عليه السلام ، بخلافه قال : «وفي كتاب
محمّد بن يعقوب الكليني» وذكر ما رواه بطبقه ، ثمّ قال : «قال مصنّف هذا الكتاب : ولست أُفتي بهذا الحديث ، بل أُفتي بما عندي بخطّ الحسن بن عليّ عليهماالسلام» . ۷
وكما في باب الوصيّ يمنع الوارث ماله بعد البلوغ فيزني لعجزه عن التزويج ؛ حيث إنّه بعد أن أورد رواية الكليني عن الصادق عليه السلام قال : «قال مصنّف هذا الكتاب : ما وجدت هذا الحديث إلاّ في كتاب محمّد بن يعقوب ، وما رويته عن طريقه» . ۸
فهو قد أورد في كلّ من البابين ما يعارض ما أفتى به ، وطَرَحه .
وقد تعهّد أيضا أن يكون ما يذكره ما يفتي به ويحكم بصحّته ويعتقده ، وهو حجّة بينه وبين ربّه تقدّس ذكره . ۹
لكن حكى الشيخ عليّ في تعليقات الروضة عن جدّه صاحب المعالم أنّه وإن كان نظره حين الشروع في الفقيه أن يكون ما يذكره ما يفتي به ، لكنّه عدل عنه ؛ لأنّ في الفقيه ما يبعد نسبته إليه .
وربّما يستدلّ على نقض العهد بما سمعت من أنّه ذكر في بعض الأبواب أخبارا متضادّة ، فكيف يحكم بصحّتها؟! وكيف يكون كلّ واحدٍ منها حجّة؟!
واعتذر عنه مرادنا التفرشي ۱۰ بأنّ كونها حجّةً عنده من شأنها أي يفتى
بمقتضاها لا ينافي ترك الإفتاء والعملِ بها لوجود المعارض المساوي ، أو الأقوى كما هو شأن الحجج الظنّيّة .
وليس بشيء ؛ حيث إنّ المقصود بالحجّة في عبارة الفقيه هو الحجّة فعلاً ، والمدار في الاعتذار على جعل المقصود بالحجّة هو الحجّةَ شأنا ، فذكر المتعارضين من باب نقض العهد وإن كان كلّ منهما من باب الصحيح .
نعم ، إن كان ذَكَرَ عند ذكر المتعارضين كونَ ما أفتى به هو مضمونَ أحدهما ، كما فيما مرّ من البابين ، فهو لا يوجب نقض العهد بالكلّيّة ، لكن لو ثبت أنّه ذكر المتعارضين من غير ترجيح لأحدهما ، فهو من باب نقض العهد بالكلّيّة ، إلاّ أنّه إنّما يتمّ لو تكثّر منه ما ذكر ، وإلاّ فيمكن أن يكون الأمر من باب الغفلة .
وربّما يستدلّ أيضا على نقض العهد باشتمال الفقيه على أحاديثَ ضعيفةٍ ، وباشتماله على كلمات والده في رسالته إليه ؛ لعدم جواز تقليد الميّت ، فلا محيص عن كون ذكرها من باب نقض العهد ، بل لو جاز تقليد الميّت ـ كما استدلّ الفاضل التوني بذلك على جواز تقليد الميّت ؛ ۱۱ لكون نقله كلماتِ والده بعد موته مع تصريحه بجواز العمل بما في الفقيه ـ فهو قد تعهّد أن لا يورد إلاّ ما يفتي به من الأخبار ، وقول الميّت لا يصير دليلاً للمجتهد ، ولو صار دليلاً فهو ليس من الخبر ، فلات حين مناص عن ۱۲ نقض العهد .
ويندفع الأوّل بأنّ المقصود بالصحّة في كلام الصدوق ما هو المصطلح عليه عند القدماء ، ولا منافاة بين ۱۳ كون الخبر ضعيفَ السند و[كونه ]صحيحا بمعنى كونه مظنونَ الصدور بواسطة القرائن ، ويأتي مزيد الكلام .
ويمكن دفع الأخير بأنّه قد عَدَّ بُعْدُ العهد رسالةَ والده من الكتب المعتبرة التي
ذكر استخراج الفقيه منها ، ۱۴ والظاهر أنّها مضامين الأخبار ، بل عنه في المقنع أنّ ما أورد والده فيها هو ما كان مبنيّا ثابتا عن المشايخ الفقهاء الثقات ، ۱۵ بل قد يقال : إنّها شرائع والده . ۱۶
وقد ذكر في الذكرى أنّ الأصحاب كانوا يتمسّكون بفتاوى ابن بابويه في الشرائع عند إعواز النصوص من جهة وثوقهم بانطباق الفتاوى المذكورة في الشرائع على متون الأخبار المعتبرة . ۱۷
بل قال الفاضل التوني : «إنّه لا يفتي ابنا بابويه في المسائل إلاّ بمنطوقات الأدلّة ، وإلاّ فلا وجه لعدّها من الكتب المعتبرة التي استخرج الفقيه منها» . ۱۸
وبالجملة ، فالظاهر عدم العدول عن ذكر الفتوى إلى مجرّد نقل الأخبار ؛ حيث إنّه قال في باب ما يجب به التعزير والحدّ وهو قريب من أواخر الكتاب : «وفي رواية وهب بن وهب ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم السلام» إلى آخر الحديث ، ثمّ قال :
قال مصنّف هذا الكتاب : جاء الحديث هكذا في رواية وهب بن وهب وهو ضعيف ، والذي أُفتي به وأعتمده في هذا المعنى ما رواه الحسن بن محبوب عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام . ۱۹
مع أنّه جرى في الذكر في كتاب المواريث في أبواب متعدّدة ، بل باب مبسوط على سبيل ذكر الفتوى من دون النقل والرواية ، كما جرى عليه في أوائل
الكتاب قليلاً . ۲۰
مضافا إلى ما يرشد إلى ذلك من اختلافاته في كتاب المواريث مع الفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن ، قال : «وقال الفضل بن شاذان» ۲۱ ثمّ قال : «وغلط الفضل بن شاذان» . ۲۲
وقال أيضا : «وغلط الفضل بن شاذان في هذه المسألة فقال» إلى آخره وقال أيضا : «وقال الفضل بن شاذان» ، ثمّ قال : «وغلط الفضل بن شاذان» ، ۲۳ وقال أيضا : «وغلط الفضل بن شاذان في قوله» ۲۴ ثمّ قال : «وغلط يونس بن عبد الرحمن في قوله» إلى آخره . ۲۵
1.الفقيه ۱ : ۳ ، مقدّمة الكتاب .
2.سوره انبياء ، آيه ۳۵ .
3.سوره اعراف ، آيه ۱۶۸ .
4.روضة المتّقين ۱۴ : ۱۰ .
5.الفقيه ۱ : ۳ مقدّمة الكتاب .
6.سوره كهف ، آيه ۷ .
7.روضة المتّقين ۱۴ : ۱۰ .
8.أي التوجيهان .
9.الفقيه ۱ : ۳ ، مقدّمة الكتاب .
10.الفقيه ۴ : ۱۵۱ ، ح ۵۲۳ ـ ۵۲۴ باب الرجلين يوصى إليهما .
11.الفقيه ۴ : ۱۶۵ ، ح ۵۷۸ ، باب الوصي يمنع الوارث ماله . وفي آخره : «إلاّ من طريقه» بدلاً عن «عن طريقه» .
12.الفقيه ۱ : ۳ .
13.هو مراد بن علي خان التفرشي ، العلاّمة المحقّق المدقّق جليل القدر ، عظيم المنزلة ، دقيق الفطنة ... قرأ المعقولات على جماعة ـ كان أكثرُهم أخذا عنه سيّدَ الحكماء المتألّهين ميرزا إبراهيم الهمداني ـ والمنقولاتِ على شيخ الطائفة بهاء الملّة والدين محمّد العاملي ، له تصانيفُ منها : كتاب موسوم بالتعليقة السجّاديّة علّقها على من لا يحضره الفقيه في حجم عشرين ألف بيت . جامع الرواة ۲ : ۲۲۳ .
14.الوافية : ۲۹۹ ـ ۳۰۸ .
15.في «د» : «قد» .
16.في «د» : «بعد» .
17.الفقيه ۱ : ۵ ، من مقدّمة الكتاب .
18.المقنع : ۵ ، مقدّمة المصنّف .
19.انظر ذكرى الشيعة ۱ : ۵۱ .
20.ذكرى الشيعة ۱ : ۵۱ .
21.الوافية : ۳۰۷ .
22.الفقيه ۴ : ۲۵ ، ح ۵۸ ـ ۵۹ ، باب ما يجب به التعزير والحدّ .
23.الفقيه ۴ : ۱۹۰ ، باب ميراث ولد الصلب .
24.الفقيه ۴ : ۱۸۹ و ۱۹۵ و ۱۹۷ باب إبطال العول في المواريث .
25.الفقيه ۴ : ۱۹۷ ، باب ميراث الأبوين مع ولد الولد .
26.الفقيه ۴ : ۲۰۸ ، باب ميراث الأجداد والجدّات .
27.الفقيه ۴ : ۲۱۵ ، باب ميراث ذوي الأرحام .
28.الفقيه ۴ : ۲۱۳ ، باب ميراث ذوي الأرحام .