الخامس والتسعون : [ في ذكر كلام العلاّمة المجلسي ونقده ]
أنّه قد ذكر العلاّمة المجلسي في أربعينه عند شرح الحديث الخامس والثلاثين أنّ أخبار الكتب الأربعة مأخوذة من الكتب المشهورة . واستدلّ عليه بوجوه وقد أعجبني إيراد كلامه في الباب من باب المناسبة ، وإلاّ فليس الغرض منه عدمَ لزوم نقد الطريق ، كما ربّما يتوهّمه غير البصير ، كيف ولم يتّفق من الكليني حذف الطريق ، مضافا إلى إمكان كون المأخوذ عن كتابه في التهذيب أو الاستبصار بعضَ رجال المحذوفين أو المذكورين ، فلا ارتباط لكلامه بنقد الطريق بوجه . نعم ، مقتضى صريح بعض كلماته أنّه لا حاجة إلى نقد طرق الفقيه . قال :
كانت الأُصول الأربعمائة عندهم ـ يعني المحدّثين ـ أظهرَ من الشمس في رابعة النهار ، فكما أنّا لا نحتاج إلى سند لهذه الأُصول الأربعة ، وإذا أوردنا سندا فليس إلاّ للتيمّن والتبرّك والاقتداء بسنّة السلف ، وربّما لم ينال بذكر سند فيه ضعف أو جهالة لذلك ، فكذا هؤلاء الأكابر المؤلّفين لذلك كانوا يكتفون بذكر سند واحد إلى الكتب المشهورة وإن كان فيه ضعف أو مجهول ، وهذا باب واسع شافٍ نافع إن أتيتَها يظهر لك صحّة كثير من الأخبار التي وصفها القوم بالضعف .
ولنا على ذلك شواهدُ كثيرة لا تظهر على غيرنا إلاّ بممارسة الأخبار ، وتتبّع سيرة قدماء علمائنا الأخيار ، ولنذكر هنا بعض تلك الشواهد ، ينتفعْ بها من لم يسلك مسلكَ المتعسّف المعاند :
الأوّل: أنّك ترى الكليني رحمه اللهيذكر سندا متّصلاً إلى ابن محبوب أو إلى ابن أبي عمير أو إلى غيره من أصحاب الكتب المشهورة ، ثمّ يبتدئ بابن محبوب مثلاً ويترك ما تقدّمه من السند ، وليس ذلك إلاّ لأنّه أخذ الخبر من كتابه ، فيكتفي بايراد السند مرّة واحدة ، فيظنّ من لا دراية له في الحديث أنّ الخبر مرسل .
الثاني : أنّك ترى الكليني والشيخ وغيرهما يروون خبرا واحدا في موضعين ، ويذكرون سندا إلى صاحب الكتاب [ثمّ يوردون هذا الخبر بعينه في موضع آخر بسند آخر إلى صاحب الكتاب] ۱ أو بضمّ سند أو أسانيدَ غيرِه إليه، وتراهم لهم أسانيدُ صحاح في خبر يذكرونها في موضع ، ثمّ يكتفون بذكر سند ضعيف في موضع آخر ، ولم يكن ذلك إلاّ لعدم اعتنائهم بإيراد تلك الأسانيد ؛ لاشتهار هذه الكتب عندهم .
الثالث : أنّك ترى الصدوق رحمه اللهمع كونه متأخّرا عن الكليني رحمه اللهأخذ الأخبار في الفقيه عن الأُصول المعتمدة ، واكتفى بذكر الأسانيد في الفهرست ، وذكر لكلّ كتابٍ أسانيدَ صحيحةً ومعتبرة ، ولو كان ذَكَر الخبر مع سنده لاكتفى بسند واحد اختصارا ، ولذا صار الفقيه متضمّنا لصحاح الأخبار أكثرَ من سائر الكتب .
والعجب ممّن تأخّر كيف لم يقتف أثره لتكثير الفائدة ، وقلّة حجم الكتاب ، فظهر أنّهم كانوا يأخذون الأخبار من الكتب ، وكانت الكتب عندهم مشهورة متواترة .
الرابع : أنّك ترى الشيخ رحمه اللهإذا اضطرّ في الجمع بين الأخبار إلى القدح في
سند لا يقدح فيمن هو قبل صاحب الكتاب [من مشايخ الإجازة] ، ۲ بل يقدح إمّا في صاحب الكتاب أو فيمن بعده من الرواة كعليّ بن حديد وأضرابه،مع أنّه في الرجال ضعّف جماعه ممّن يقعون في أوائل الأسانيد.
الخامس : أنّك ترى جماعة من القدماء والمتوسّطين يصفون خبرا بالصحّة ، مع اشتماله على جماعة لم يوثّقوا ، فغفل المتأخّرون عن ذلك واعترضوا عليهم ، كأحمد بن محمّد بن الوليد ، وأحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ، والحسين بن الحسن بن أبان ، وأضرابهم ، وليس ذلك إلاّ لما ذكرنا .
السادس : أنّ الشيخ ـ قدّس اللّه روحه ـ فعل مثل ما فعل الصدوق ، لكن لم يترك الأسانيد طرّا في كتبه ، فاشتبه الأمر على المتأخّرين ؛ لأنّ الشيخ عمل لذلك كتاب الفهرست وذكر فيه أسماء المحدّثين والرواة من الإماميّة وكتبهم وطرقه إليهم ، وذكر قليلاً من ذلك في مختتم كتابي التهذيب والاستبصار ، فإذا أورد رواية ظهر على المتتبّع أنّه أخذه من شيء من تلك الأُصول المعتبرة ، وكان للشيخ في الفهرست إليه سند صحيح ، فالخبر صحيح مع صحّة سند الكتاب إلى الإمام عليه السلاموإن اكتفى الشيخ عند إيراد الخبر بسند فيه ضعف .
السابع : أنّ الشيخ رحمه الله ذكر في الفهرست عند ترجمة محمّد بن بابويه القمّي ما هذا لفظه : «له نحو من ثلاثمائة مصنَّف أخبرني بجميع كتبه ورواياته جماعة من أصحابنا ، منهم الشيخ أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان ، وأبو عبد اللّه الحسين بن عبيد اللّه الغضائري ، وأبو الحسين جعفر بن الحسن بن حسكة القمّي ، وأبو زكريّا محمّد بن سليمان الحمراني كلّهم عنه» . ۳ فظهر أنّ الشيخ روى جميع مرويّات
الصدوق نوّر اللّه ضريحهما بتلك الأسانيد الصحيحة ، فكلّما روى الشيخ خبرا من بعض الأُصول التي ذكرها الصدوق في فهرسته ، فسنده إلى هذا الأصل صحيح ، وإن لم يذكر في الفهرست سندا صحيحا إليه .
وهذا أيضا باب غامض دقيق ينفع في الأخبار التي لم تصل إلينا من مؤلّفات الصدوق ، فإذا أحطت خُبْرا بما ذكرنا لك من غوامض أسرار الأخبار ـ وإن كان ما تركنا أكثرَ ممّا أوردنا ـ وأصغيت إليه بسمع اليقين ، ونسيت تعسّفات المتعصّبين وتأويلات المتكلّفين ، لا أظنّك ترتاب في حقّيّة هذا الباب ، ولا تحتاج بعد ذلك إلى تكلّفات الأخباريين في تصحيح الأخبار ، واللّه الموفِّق للخير والصواب . ۴
أقول : قوله : «الأوّل» إلى آخره ، مرجع ما ذكره إلى دعوى كون إسنادات الكليني إلى بعض رجال السند السابق ممّن عدا الأوّل من باب أخذ الرواية من كتاب من أسند إليه.
والحقّ أنّ الأمر من باب حوالة الحال إلى السند السابق ، وقد تقدّم مقالته مع بسط المقال في شرح الحال .
قوله : «السابع» إلى آخره مرجع ما ذكره أنّ للشيخ طرقا صحيحة إلى جميع ما رواه الصدوق ، فلو روى الشيخ عمّن روى عنه الصدوق ، فالطريق إلى من روى عنه الصدوق صحيح وإن لم يذكر الصدوق طريقا إلى من روى عنه في المشيخة .
وأنت خبير بأنّ غاية الأمر إنّما هي صحّة طرق الشيخ إلى الصدوق ، وهو لا يجدي في صحّة طريق الصدوق إلى من روى عنه ، فلو روى الشيخ عمّن روى عنه الصدوق ، ولم يذكر الطريق إلى من روى عنه ، فلا يثبت صحّة طريق الشيخ إلى من روى عنه الصدوق .
وإن قلت : إنّ ما ذكر مبنيّ على كون الغرض كفايةَ صحّة طرق الشيخ إلى
الصدوق في صحّة الطريق من الشيخ إلى من روى عنه الصدوق ، وإن لم يذكر الصدوق الطريق إلى من روى عنه في المشيخة . والجزء الأوّل من هذا الكلام ـ أعني كون الغرض كفاية صحّة طرق الشيخ إلى الصدوق في صحّة طريق الشيخ إلى من روى عنه الصدوق ـ وإن كان في المحلّ ؛ بشهادة قوله : «فسنده إلى هذا الأصل صحيح» . لكن الجزء الثاني ـ أعني صورة عدم ذكر الصدوق الطريق إلى من روى عنه في المشيخة ـ ليس في المحلّ ، بل الغرض صورة عدم ذكر الشيخ في الفهرست المعروف الطريقَ إلى من روى عنه الصدوق ، فليس المقصود بالفهرست هو مشيخةَ الصدوق ، كما هو مبنى الإيراد ، بل المقصود هو كتاب الشيخ المعروف وحيئنذٍ لا يتأتّى الإيراد المذكور .
قلت : إنّ الظاهر من الفهرست وإن كان هو كتابَ الشيخ ـ وإن أمكن القدح في الظهور بكثرة إطلاق الفهرست على المشيخة وكتب الرجال ـ لكنّ الظاهر من الفهرست في المقام إنّما هو مشيخة الصدوق بشهادة سياق قوله : «ذكرها الصدوق في فهرسته» مع أنّه لو حمل الفهرست على المشيخة يرجع الضمير المرفوع في قوله : «وإن لم يذكر» إلى الصدوق ، وأمّا لو حمل الفهرست على الكتاب فيرجع الضمير المذكور إلى الشيخ ، والأوّل أرجح ؛ قضيّةَ القرب . ومع ذلك صحّة طرق الشيخ إلى الصدوق لا تجدي في صحّة طريق الصدوق إلى من روى عنه ، فلا تجدي في صحّة طريق الشيخ إلى من روى عنه الصدوق ، فعاد المحذور بعينه.
وربّما أُورد بأنّ غاية ما يثبت من ذكر الصدوق الطريقَ إلى كتاب من روى عنه إنّما هي كون الطريق طريقا في الجملة ، أي طريقا إلى بعض روايات الكتاب ، وأمّا كون الطريق طريقا إلى جميع روايات الكتاب ، فهو غير ثابت .
ويندفع بأنّ الظاهر كون الطريق طريقا على وجه العموم ، أي طريقا إلى جميع روايات الكتاب كما تقدّم .
1.ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر .
2.ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر .
3.الفهرست : ۱۵۶ / ۷۰۵ .
4.الأربعون حديثا : ۵۱۰ ـ ۵۱۲ ، ح ۳۵ .