أحرص ، فكلّما يراها يزداد مُناها ، وكان راغبا أيضا إلى الملكة ، مائلاً إلى السرير والمملكة ، فمرّة يقول: أختار الجارية وعبادة الأوثان ، وأفديها حياتي ولا اُبالي عن الحدثان ، ومرّة اُخرى عن إرادته يتولّى ، ويقول: اختيار الملكة أولى ، فإذا نظر إلى الجارية يهواها ، وإذا ذكر الملكة يقول: ما اُريد سواها ، فتحيّر في أمرهما ؛ إذ سكر من خُمُرهما ، فاستشار في هذا الأمر إلى صديق كان معه في الطريق ، فقال له : أيُّها المفتون في حبالة صيدهما ، والمجنون في بادية قيدهما ، إن اخترت الملكة تمتّعت من وصالها ، وإن نكحت الجارية فقد سعيت في زوالها ، فهل لك في اختيار الجارية حياة ؟ هيهات هيهات ، فالجارية هي الدنيا ، والملكة هي الآخرة ، فأيّ عاقل يرغب إلى الجارية الفانية ، ويذر الملكة الباقية؟ أليس لك الأولى ، إيثار الآخرة على الاُولى ، أولى لك فأولى ، ثمّ أولى لك فأولى .
ثمّ اعلم أنّه لم يذكر واو العاطفة في قوله : «الدنيا طالبة مطلوبة» بخلاف قوله : «والآخرة طالبة ومطلوبة» .
قال بعض من المحدِّثين :
ترك الواو في الأوّل إشارة إلى أنّ تعدّد الخبر فيه نظير تعدّد الخبر في قولهم : حلو حامض؛ فإنّهما شيءٌ واحد؛ أي مرّ ، فكذلك طالبيّة الدنيا ومطلوبيّتها شيء واحد، بخلاف طالبيّة الآخرة ومطلوبيّتها؛ وذلك لأنّ العقل لا يلاحظ طالبيّة الدنيا بدون مطلوبيّتها، وكذا العكس؛ لأنّ الناس كلّهم ـ الصالحين والطالحين ـ طالبون للدنيا .
أمّا الصالح فلاستيفاء الرزق منها ، وأمّا الطالح فلرغبته إليها لأجل التمتّع من شهواتها ولذّاتها .
وكذلك الدنيا طالبة لكلّهم الصالحين والطالحين؛ لاستيفاء رزقهم منها، فيكونان عند العقل شيئا واحدا غير متمايزين وإن كان فيهما تمايز اعتباري.
وليست طالبيّة الآخرة ومطلوبيّتها كذلك؛ فإنّ الآخرة ليست مطلوبة لأكثر الناس وإلّا لكانوا عاملين لها؛ لأنّ طالب الشيء يسعى لتحصيله ، فطالبيّتها لكلّ الناس ومطلوبيّتها لبعضهم ، فالعقل يلاحظ مطلوبيّة الآخرة بدون طالبيّتها؛ لأنّ طالبيّتها