المبحث الأوّل
أوّلاً : أغراض وأبعاد القصص القرآني
تمثّل القصص القرآني صورة متكاملة من النظم، كما أنّها تكشف في يسر وسهولة عن علوّ البلاغة القرآنية واقتدارها على تصريف الأحداث وامتلاك زمامها ، وتحريكها بحسب مقتضيات الحال والمقام ، وهي أفضل وسيلة للتربية والتهذيب، فعن طريق العرض القصصي لحوادث القصّة وأشخاصها تتفتّح أشواق النفس إلى متابعة هذا العرض، وإلى المشاركة الوجدانية في مواقف القصّة وأحداثها ۱ .
وغرض القصّة إثبات الوحي والرسالة، وبيان أنّ الدين كلّه من عند اللّه ، من عهد نوح إلى عهد محمّد صلى الله عليه و آله ، وأنّ المؤمنين كلّهم أُمّة واحدة ، واللّه الواحد ربّ الجميع، وبيان أنّ الوسائل (الأنبياء عليهم السلام ) في الدعوة موحّدة، وأنّ استقبال قومهم لهم متشابه ، وأنّ الأصل مشترك بين دين محمّد ودين إبراهيم بصفةٍ خاصّة، ثمّ أديان بني إسرائيل بصفة عامّة، وإبراز أنّ هذا الاتّصال أشدّ من الاتّصال العامّ بين جميع الأديان، وتصديق التبشير والتحذير، وعرض أُنموذج واقع هذا التصديق، وبيان أنّ نعمة اللّه على أنبيائه وأصفيائه تبنّيه أبناء آدم إلى غواية الشيطان ، وبيان قدرة اللّه على الخوارق، كقصّة خلق آدم ، وقصّة مولد عيسى ، وقصّة إبراهيم والطير ۲ .
وفضلا عن تميّز كلّ شخصية من الرسل بميزات خاصّة ، فإن كان هناك تشابه فهو التشابه العامّ الرئيس بين مبادئ الرسالات وأهدافها ، وما كانت تُقابَل به من المعارضين، فتشابهت المواقف أحيانا لذلك ۳ .
وتهيّئ آفاق القصص القرآني الرحبة أرضية خصبة لإدراك أُصول الدعوة الدينية ، وفهم الظروف الصعبة التي واجهت حملة الرسالات الإلهيّة ، ومن ثمّ يعود إلى عزيمة أقوى وقدرة أوسع لنشر الدين الإسلامي الحنيف .
وإلى جانب مهمّة القصص القرآني تتمتّع الموعظة والذكر بأثر حسّاس يتسامى إلى أهداف أصيلة، كالوعي والانتباه والتذكّر ، وتعبّر القصّة عن ثلث القرآن الكريم، وتتّصف بالواقعية، إذ لها علاقة بواقع الإنسان وإعادة قراءة التاريخ الإنساني وما حدث في حياة الأُمم السالفة والرسالات الإلهيّة، والاستفادة منها في الوقت الحاضر، والاعتبار بها في الحياة ومجرياتها، والتطلّعات المستقبلية ۴ .
وينتزع موضوع القصّة الناجحة من أحداث الحياة، ثمّ يجري أشخاصها في هذا المجال ، ويوضع كلّ واحد في المكان المناسب له ، وأنّها من هذه الناحية أداة قويّة من أدوات التربية والإصلاح في يد المسلمين والمربّين ، وهي وسيلة من الوسائل الفعّالة في تقرير الحقائق وتثبيتها في النفوس، وهو قصّ جادّ للعبرة والموعظة، وليس فيها مجال للتسلية واللّهو .
وعناصر القوّة في القصص القرآني مستمدّة من واقعية الموضوع وصدقه ودقّة عرضه، والعناية بإبراز الأحداث ذات الشأن في موضوع القصّة، دون التعرّض للجزئيات التي يشير إليها واقع الحال ، وتدلّ عليها دلالات ما قبلها وما بعدها من صور ۵ .
وتبقى الأهداف الأصلية للقصّة ـ فضلاً عن العبرة والموعظة ـ هي تصديق النبوّات والتثبيت وإقامة الحجّة والبرهان على صدق نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله ومضمون رسالته ۶ .
وأمّا أبعاد دراسة القصص القرآني فهي : البعد الأدبي وتصوير الأحداث، وبعد سياقي مرتبط بأغراض القصّة ، وبعد تاريخي والسنن التي يمكن استنتاجها من القصّة، أو المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية التي يمكن استنباطها منها ۷ .
وبُعد اجتماعي يتمثّل في اتّخاذهم الأوثان محوراً للعلاقات الاجتماعية في الولاء والمودّة، بدل اللّه تعالى، مع أنّ المحور في الولاء والمودّة لا أصل له، بل سوف يتحوّل بعد ذلك إلى عداوة وبراءة بعضهم من بعض يوم القيامة، مضافاً إلى وجود الحالة المدنية في حياتهم الاجتماعية، كالبناء والأعمال، والأعمال اليدوية . وأمّا البُعد السياسي فهو الذي كان يتمثّل في وجود نظام للحكم يرأسه ملك قوانين ۸ .
وأمّا مناهج استعراض القصص القرآني، فمنها: المنهج التقليدي الذي سار عليه المفسّرون وذكر حوادثها ، ومنهج تحليلي من حيث الهدف العامّ والخاصّ وأسباب التكرار والأُسلوب، ومنهج نظري وهو استخلاص النظرية العامّة في القصّة من خلال تحليل مفرداتها، والجمع بينها تنوير نظري متكامل .
ومنهج اجتماعي وهو تصوير الحركة التغيرية السياسية والاجتماعية التي يقوم بها ، ومنهج تاريخي في عرض الأحداث التي ذكرتها القصّة مترتّبة بحسب تسلسلها الزمني وكوقائع تاريخية ۹ .
1.انظر: إعجاز القرآن لعبد الكريم الخطيب: ج ۲ ص ۳۲۲.
2.انظر: التصوير الفنّي في القرآن لسيّد قطب: ص ۱۱۹ ـ ۱۱۲.
3.انظر: في القصص القرآني لأحمد الشايب، مجلّة رسالة الإسلام العدد: ۵۹ ص ۴۴.
4.انظر: القصص القرآني للسيّد محمّد باقر الحكيم: ص ۶۶ ـ ۷۶.
5.انظر: إعجاز القرآن : ج ۲ ص ۳۲۳.
6.انظر: القصص القرآني: ص ۶۸.
7.انظر: المصدر السابق: ص ۷۹.
8.انظر: المصدر السابق: ص ۱۸۰.
9.المصدر السابق: ص ۷۹ ـ ۸۰ .