رسالة في « محمد بن أبي عمير » - صفحه 454

[ آفات المعاشرة والعزلة ]

وكيف كان مضارّ الإنسان لايحصيها ولايحيط بها نطاق البيان ، لكنّ الاعتزال ـ بعد امتناعه ؛ قضيّةَ أنّ الإنسان محتاج إلى الغير في جهاتٍ لاتحصى ، وفي كلِّ من الجهات يحتاج إلى المعاشرة ، وكذا بعد مرجوحيّته شرعاً ـ مغرس الوسواس ، كما نصّ عليه الحكيم الشيرازي في شرح اُصول الكافي . ۱
وهذا من قبيل الداء الفاقدة للدواء ، بل الاعتزال يقرب العقل إلى الزوال ، كما قيل ، ووجهه : عدم ورود الملائم على الطبيعة ، حيث إنّ المعاشرة وإن كانت في غاية الإضرار لكنّها توجب الفرح والسرور كثيراً ، وقوام الروح بورود السرور ، وهو غذاؤها ، كما أنّ قوام الجسد بورود الغذاء الخارجيّ .
وكذا توجب المعاشرة الغفلةَ عن الموت ، وبه قوام نظام الدنيا ، والاعتزال يوجب حركة الفكر إلى جانب الموت ، وهو يوجب توحّش الطبيعة ، فيتأدّي الأمر إلى ضعف العقل .
وعن بعض الحكماء : إيّاكم والخلوات ، فإنّها تفسد العقول وتحلّ المعقول وتعقد المحلول ، بل في بعض الأخبار أنّ التفكّر في عاقبة الأمر يوجب الهلاكة .
وليس ماذُكر إلاّ من جهة كثرة شدائد هذه الدار ، دارِ النار ؛ حيث إنّ تحمّل كلٍّ من الضدّين فيها كتحمّل حرارة نار الجحيم ، كيف لا ! وفي بعض الأخبار أنّ المؤمن يموت كلّ يومٍ سبعين مرّة ، هذه الدار يتغلغل أهلها بين أطباقها ، وتلقى سكّانها بآخر ما لديها من أليم النكال وعظيم الوبال ، ولايطّلع على حالها وحراراتها غيراللّه سبحانه وأحزابه سلام اللّه عليهم أجمعين .
وتتّضح حرارة المعاشرة بالاطّلاع على حالات الإنسان ، فإنّه في غاية نقصان العقل ، كيف لا ! وقد ذكر بعض : أنّ عقل عشرين أو أربعين رجلاً يوازن عقل شاة .
وقيل : للحماقة ستّ علامات ، وأكثرها موجود في غالب الناس .
وقال بعض الأطبّاء : إنّ أكثر علامات الجنون موجود في غالب الناس .
وقال البيضاوي : يتعب الناس أنفسهم جدّاً إتعاب الصبيان في الملاعب .
وعن أبي هذيل العلاّف ترجيح الحمار على الإنسان ؛ نظراً إلى أنّه لو أتيت بالحمار إلى جدول صغير وضربته للعبور يُطيع ، لكن لو أتيت به إلى جدول كبير وضربته للعبور لايُطيع ، فهو يفرّق بين المقدور ، وغير المقدور لكنّ الإنسان لايفرّق بين المقدور وغير المقدور .
ولعمري إنّ هذا لهو حقّ اليقين ؛ حيث إنّ الإنسان يتحرّك إلى ما يشتهيه ولو كان غير مقدور له ، وهذا من عاداته المتعارفة بين أفراده .
لكن حرارة المعاشرة مع هذا السفيه البالغ في الحماقة حدّ النهاية بمقدار عقل المعاشر وحماقته أحد وجهي شدّة حرارة المعاشرة معه ، والوجه الآخَر : شدّة شرارته ، ومن شواهدها تشبيهه في بعض أخبار الدَّين بالتنّين ۲ . ۳

1.شرح أصول الكافي للحكيم الشيرازي : ۵۸ .

2.التنّين : ضرب من الحيّات . الصحاح ۵ : ۲۰۸۷ (تنن) .

3.تهذيب الأحكام ۶ : ۳۲۹ ، ح ۹۱۲ ، باب المكاسب .

صفحه از 476